فصل: فصل: (في النوع الإنساني أشخاص طوائف يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطور الأول):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.فصل: (في النوع الإنساني أشخاص طوائف يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطور الأول):

ومنهم طوائف يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطور الأول الذي هو من مدارك النفس الروحانية ولا من الحدس المبني على تأثيرات النجوم كما زعمه بطليموس ولا من الظن والتخمين الذي يحاول عليه العرافون وإنما هي مغالط يجعلونها كالمصائد لأهل العقول المستضعفة ولست أذكر من ذلك إلا ما ذكره المصنفون وولع به الخواص فمن تلك القوانين الحساب الذي يسمونه حساب النيم وهو مذكور في آخر كتاب السياسة المنسوب لأرسطو يعرف به الغالب من المغلوب في المتحاربين من الملوك وهو أن تحسب الحروف التي في اسم أحدهما بحساب الجمل المصطلح عليه في حروف أبجد من الواحد إلى الألف آحادا وعشرات ومئين وألوفا فإذا حسبت الاسم وتحصل لك منه عدد فاحسب اسم الآخر كذلك ثم اطرح من كل واحد منهما تسعة واحفظ بقية هذا وبقية هذا ثم انظر بين العددين الباقيين من حساب الاسمين فإن كان العددان مختلفين في الكمية وكانا معا زوجين أو فردين معا فصاحب الأقل منهما هو الغالب وإن كان أحدهما زوجا والآخر فردا فصاحب الأصغر هو الغالب وأن كانا متساويين في الكمية وهما معا زوجان فالمطلوب هو الغالب وإن كانا معا فردين فالطالب هو الغالب ويقال هنالك بيتان في هذا العمل اشتهرا بين الناس وهما:
أرى الزوج والأفراد يسمو اقلها ** وأكثرها عند التحالف غالب

ويغلب مطلوب إذا الزوج يستوي ** وعند استواء الفرد يغلب طالب

ثم وضعوا لمعرفة ما بقى من الحروف بعد طرحها بتسعة قانونا معروفا عندهم في طرح تسعة وذلك أنهم جمعوا الحروف الدالة على الواحد في المراتب الأربع وهي (ا) الدالة على الواحد وهي (ي) الدالة على العشرة وهي واحد في مرتبة العشرات و: (ق) الدالة على المائة لأنها واحد في مرتبة المئين و: (ش) الدالة على الألف لأنها واحد في منزلة الآلاف وليس بعد الألف عدد يدل عليه بالحروف لأن الشين هي آخر حروف أبجد ثم رتبوا هذه الأحرف الأربعة على نسق المراتب فكان منها كلمة رباعية وهي (ايقش) ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على اثنين في المراتب الثلاث وأسقطوا مرتبة الآلاف منها لأنها كانت آخر حروف أبجد فكان مجموع حروف الاثنين في المراتب الثلاث ثلاثة حروف وهي (ب) الدالة على اثنين في الآحاد و: (ك) الدالة على اثنين في العشرات وهي عشرون و: (ر) الدالة على اثنين في المئين وهي مائتان وصيروها كلمة واحدة ثلاثة على نسق المراتب وهي بكر ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على ثلاثة فنشأت عنها كلمة جلس وكذلك إلى آخر حروف أبجد وصارت تسع كلمات نهاية عدد الآحاد وهي ايقش بكر جلس دمت هنث وصخ زعد حفظ طضغ مرتبة على توالى الأعداد ولكل كلمة منها عددها الذي هي في مرتبته فالواحد لكلمة ايقش والاثنان لكلمة بكر والثلاثة لكلمة جلس وكذلك إلى التاسعة التي هي طضغ فتكون لها التسعة فإذا أرادوا طرح الاسم بتسعة نظروا كل حرف منه في أي كلمة هو من هذه الكلمات وأخذوا عددها مكانه ثم جمعوا الأعداد التي يأخذونها بدلا من حروف الاسم فإن كانت زائدة على التسمية أخذوا ما فضل عنها وإلا أخذوه كما هو ثم يفعلون كذلك بالاسم الآخر وينظرون بين الخارجين بما قدمناه والسر في هذا بين وذلك أن الباقي من كل عقد من عقود الأعداد بطرح تسعة إنما هو واحد فكأنه يجمع عدد العقود خاصة من كل مرتبة فصارت أعداد العقود كأنها آحاد فلا فرق بين الاثنين والعشرين والمائتين والألفين وكلها اثنين وكذلك الثلاثة والثلاثون والثلاثمائة والثلاثة الآلاف كلها ثلاثة ثلاثة فوضعت الأعداد على التوالي دالة على أعداد العقود لا غير وجعلت الحروف الدالة على أصناف العقود في كل كلمة من الآحاد والعشرات والمئين والألوف وصار عدد الكلمة الموضوع عليها نائبا عن كل حرف فيها سواء دل على الآحاد أو العشرات أو المئين فيؤخذ عدد كل كلمة عوضا من الحروف التي فيها وتجمع كلها إلى آخرها كما قلناه هذا هو العمل المتداول بين الناس منذ الأمر القديم وكان بعض من لقيناه من شيوخنا يرى أن الصحيح فيها كلمات أخرى تسعة مكان هذه ومتوالية كتواليها ويفعلون بها في الطرح بتسعة مثل ما يفعلونه بالأخرى سواء وهي هذه ارب يسقك جزلط مدوص هف تحذن عش خع ثضظ تسع كلمات على توالي العدد ولكل كلمة منها عددها الذي في مرتبته فيها الثلاثي والرباعي والثنائي وليست جارية على أصل مطرد كما تراه لكن كان شيوخنا ينقلونها عن شيخ المغرب في هذه المعارف من السيمياء وأسرار الحروف والنجامة وهو أبو العباس بن البناء ويقولون عنه أن العمل بهذه الكلمات في طرح حساب النيم أصح من العمل بكلمات ايقش والله يعلم كيف ذلك وهذه كلها مدارك للغيب غير معروف أرسطو عند المحققين لما فيه من الآراء البعيدة عن التحقيق والبرهان يشهد لك بذلك تصفحه إن كنت من أهل الرسوخ ومن هذه القوانين الصناعية لاستخراج الغيوب فيما يزعمون الزايرجة المسماة بزايرجة العالم المعزوة إلى أبي العباس سيدي أحمد السبتي من أعلام المتصوفة بالمغرب كان في آخر المائة السادسة بمراكش ولعهد أبي يعقوب المنصور من ملوك الموحدين وهي غريبة العمل صناعة وكثير من الخواص يولعون بإفادة الغيب منها بعملها المعروف الملغوز فيحرضون بذلك على حل رمزه وكشف غامضه وصورتها التي يقع العمل عندهم فيها دائرة عظيمة في داخلها دوائر متوازية للأفلاك والعناصر والمكونات والروحانيات وغير ذلك من أصناف الكائنات والعلوم وكل دائرة مقسومة بأقسام فلكها إما البروج وإما العناصر أو غيرهما وخطوط كل قسم مارة إلى المركز ويسمونها الأوتار وعلى كل وتر حروف متتابعة موضوعة فمنها برشوم الزمام التي هي أشكال الأعداد عند أهل الدواوين والحساب بالمغرب لهذا العهد ومنها برشوم الغبار المتعارفة في داخل الزايرجة وبين الدوائر أسماء العلوم ومواضع الأكوان وعلى ظاهر الدوائر جدول متكثر البيوت المتقاطعة طولا وعرضا يشتمل على خمسة وخمسين بيتا في العرض ومائة وواحد وثلاثين في الطول جوانب منه معمورة البيوت تارة بالعدد وأخرى بالحروف وجوانب خالية البيوت ولا تعلم نسبة تلك الأعداد في أو ضاعها ولا القسمة التي عينت البيوت العامرة من الخالية وحافات الزايزجة أبيات من عروض الطويل على روي اللام المنصوبة تتضمن صورة العمل في استخراج المطلوب من تلك الزايرجة إلا أنها من قبيل الإلغاز في عدم الوضوح والجلاء وفي بعض جوانب الزايرجة بيت من الشعر منسوب لبعض أكابر أهل الحدثان بالمغرب وهو مالك بن وهيب من علماء أشبيلية كان في الدولة اللمتونية ونص البيت:
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن ** غرائب شك ضبطه الجد مثلا

وهو البيت المتداول عندهم في العمل لاستخراج الجواب من السؤال في هذه الزايرجة وغيرها فإذا أرادوا استخراج الجواب عما يسأل عنه من المسائل كتبوا ذلك السؤال وقطعوه حروفا ثم أخذوا الطالع لذلك الوقت من بروج الفلك ودرجها وعمدوا إلى الزايرجة ثم إلى الوتر المكتنف فيها بالبرج الطالع من أوله مارا إلى المركز ثم إلى محيط الدائرة قبالة الطالع فيأخذون جميع الحروف المكتوبة عليه من أوله إلى آخره والأعداد المرسومة بينهما ويصيرونها حروفا بحساب الجمل وقد ينقلون آحادها إلى العشرات وعشراتها إلى المئين وبالعكس فيهما كما يقتضيه قانون العمل عندهم ويضعونها مع حروف السؤال ويضيفون إلى ذلك جميع ما على الوتر المكتنف بالبرج الثالث من الطالع من الحروف والأعداد من أوله إلى المركز فقط لا يتجاوزونه إلى المحيط ويفعلون بالأعداد ما فعلوه بالأول ويضيفونها إلى الحروف الأخرى ثم يقطعون حروف البيت الذي هو أصل العمل وقانونه عندهم وهو بيت مالك بن وهيب المتقدم ويضعونها ناحية ثم يضربون عدد درج الطالع في أس البرج وأسه عندهم هو بعد البرج عن آخر المراتب عكس ما عليه الأس عند أهل صناعة الحساب فانه عندهم البعد عن أول المراتب ثم يضربونه في عدد آخر يسمونه الأس الأكبر والدور الأصلي ويدخلون بما تجمع لهم من ذلك في بيوت الجدول على قوانين معروفة وأعمال مذكورة وأدوار معدودة ويستخرجون منها حروفا ويسقطون أخرى ويقابلون بما معهم في حروف البيت وينقلون منه ما ينقلون إلى حروف السؤال وما معها ثم يطرحون تلك الحروف بأعداد معلومة يسمونها الأدوار ويخرجون في كل دور الحرف الذي ينتهي عنده الدور ويعاودون ذلك بعدد الأدوار المعينة عندهم لذلك فيخرج آخرها حروف متقطعة وتؤلف على التوالي فتصير كلمات منظومة في بيت واحد على وزن البيت الذي يقابل به العمل ورويه وهو بيت مالك ابن وهيب المتقدم حسبما نذكر ذلك كله في فصل العلوم عند كيفية العمل بهذه الزايرجة وقد رأينا كثيرا من الخواص يتهافتون على استخراج الغيب منها بتلك الأعمال ويحسبون أن ما وقع من مطابقة الجواب للسؤال في توافق الخطاب دليل على مطابقة الواقع وليس ذلك بصحيح لأنه قد مر لك أن الغيب لا يدرك بأمر صناعي البتة وإنما المطابقة التي فيها بين الجواب والسؤل من حيث الإفهام والتوافق في الخطاب حتى يكون الجواب مستقيما أو موافقا للسؤال ووقوع ذلك في هذه الصناعة في تكسير الحروف المجتمعة من السؤال والأوتار والدخول في الجدول بالأعداد المجتمعة من ضرب الأعداد المفروضة واستخراج الحروف من الجدول بذلك وطرح أخرى ومعاودة ذلك في الأدوار المعدودة ومقابلة ذلك كله بحروف البيت على التوالي غير مستنكر وقد يقع الاطلاع من بعض الأذكياء على تناسب بين هذه الأشياء فيقع له معرفة المجهول فالتناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس وطريق لحصوله سيما من أهل الرياضة فإنها تفيد العقل قوة على القياس وزيادة في الفكر وقد مر تعليل ذلك غير مرة ومن أجل هذا المعنى ينسبون هذه الزايرجة في الغالب لأهل الرياضة فهي منسوبة للسبتي ولقد وقفت على أخرى منسوبة لسهل بن عبد الله ولعمري إنها من الأعمال الغريبة والمعاناة العجيبة والجواب الذي يخرج منها فالسر في خروجه منظوما يظهر لي إنما هو المقابلة بحروف ذلك البيت ولهذا يكون النظم على وزنه ورويه ويدل عليه أنا وجدنا أعمالا أخرى لهم في مثل ذلك أسقطوا فيها المقابلة بالبيت فلم يخرج الجواب منظوما كما تراه عند الكلام على ذلك في موضعه وكثير من الناس تضيق مداركهم عن التصديق بهذا العمل ونفوذه إلى المطلوب فينكر صحتها ويحسب أنها من التخيلات والإيهامات وأن صاحب العمل بها يثبت حروف البيت الذي ينظمه كما يريد بين أثناء حروف السؤال وأن الأوتار ويفعل تلك الصناعات على غير نسبة ولا قانون ثم يجيء بالبيت ويوهم أن العمل جاء على طريقين منضبطة وهذا الحسبان توهم فاسد حمل عليه العقول عن فهم التناسب بين الموجودات والمعدومات والتفاوت بين المدارك والعقول ولكن من شأن كل مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه ويكفينا في رد ذلك مشاهدة العمل بهذه الصناعين والحدس القطعي فإنها جاءت بعمل مطرد وقانون صحيح لا مرية فيه عند من يباشر ذلك ممن له ذكاء وحدس وإذا كان كثير من المعاياة في العدد الذي هو أوضح الواضحات يعسر على الفهم إدراكه لبعد النسبة فيه وخفائها فما ظنك بمثل هذا مع خفاء النسبة فيه وغرابتها فلنذكر مسئلة من المعاياة يتضح لك بها شيء مما ذكرنا مثاله لو قيل لك أخذت عددا من الدراهم واجعل بإزاء كل درهم ثلاثة من الفلوس ثم الجمع الفلوس التي أخذت واشتر بها طائرا ثم اشتر بالدراهم كلها طيورا بسعر ذلك الطائر فكم الطيور المشتراة بالدراهم فجوابه أن تقول هي تسعة لأنك تعلم أن فلوس الدراهم أربعة وعشرون وأن الثلاثة ثمنها وأن عدة أثمان الواحد ثمانية فإذا جمعت الثمن من الدراهم إلى الثمن الآخر فكان كله ثمن طائر فهي ثمانية طيور عدة أثمان الواحد وتزيد على الثمانية طائرا آخر وهو المشترى بالفلوس المأخوذة أولا وعلى سعر اشتريت بالدراهم فتكون تسعة فأنت ترى كيف خرج لك الجواب المضمر بسر التناسب الذي بين أعداد المسئلة والوهم أول ما يلقي إليك هذه وأمثالها إنما يجعله من قبيل الغيب الذي لا يمكن معرفته وظهر أن التناسب بين الأمور هو الذي يخرج مجهولها من معلومها وهذا إنما هو في الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم وأما الكائنات المستقبلة إذا لم تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته لم إذا تبين لك ذلك فالأعمال الواقعة في الزايرجة كلها إنما هي في استخراج الجواب من ألفاظ السؤال لأنها كما رأيت استنباط حروف على ترتيب من تلك الحروف بعينها على ترتيب آخر وسر ذلك إنما هو من تناسب بينهما يطلع عليه بعض دون بعض فمن عرف ذلك التناسب تيسر عليه استخراج ذلك الجواب يتلك القوانين والجواب يدل في مقام آخر من حيث موضوع ألفاظه وتراكيبه على وقوع أحد طرفي السؤال من نفي أو إثبات وليس هذا من المقام الأول بل إنما يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج ولا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه وقد استأثر الله بعلمه والله يعلم وأنتم لا تعلمون.